صدرت الترجمة العربية لرواية الكاتبة الأميركية إليزابيث جلبرت "توقيعه على الأشياء كلها" في طبعتين عن كلٍّ من "منشورات الجمل" و"دار طوى" للنشر والتوزيع، والرواية تقع في 450 صفحة من القطع المتوسط، وقد ترجمها إلى العربية أسامة إسبر.
بدأت إليزابيث جلبرت رحلتها الأدبية بكتابين مشهورين: المجموعة القصصية التي تحمل عنوان “الحجاج”، والتي وصلت إلى القائمة النهائية لجائزة بين\\همنغواي، ورواية “رجال قساة”، التي نوّهت بها النيويورك تايمز. نشرت بعد هذين الكتابين ثلاثة كتب غير روائية: “الرجل الأميركي الأخير”، والذي وصل إلى القائمة النهائية لجائزة الكتاب الوطنية، وجائزة النقاد الوطنية، وكتابي مذكرات هما: “طعام، صلاة، حب” و “ملتزم”، وكلاهما حقق أفضل المبيعات بحسب النيويورك تايمز. تُرجمت كتب جلبرت إلى أكثر من ثلاثين لغة. في 2008، سمّتها مجلتها التايم إحدى الشخصيات المائة الأكثر تأثيراً في العالم. تعيش حالياً في فرينشتاون، نيوجرسي.
فيما يلي، الفصل التمهيدي الأول من الرواية:
من الفصل الأول
انزلقت ألما ويتاكر، المولودة مع القرن، إلى عالمنا في الخامس من كانون الثاني\\يناير، سنة ١٨٠٠.
بدأت الآراء تتشكل عنها بسرعة، وتقريباً على الفور.
شعرتْ والدة ألما، حين رأت الطفلة للمرة الأولى، بأنها راضية تماماً عن المحصّلة. فقد عانت بياتريكس ويتاكر من حظ سيء حتى الآن في إنجاب وريث. وتلاشت محاولاتها الثلاث الأولى في الحمل في جداول صغيرة محزنة قبل أن يقفز الأطفال إلى الحياة. أما محاولتها الأحدث، والتي هي طفل تام الخلقة، فقد فشلت لأن الطفل وصل تماماً إلى حافة الحياة لكنه غيّر رأيه حول المسألة في الصباح نفسه الذي كان يجب أن يولد فيه، ووصل ميتاً. بعد خسارات كهذه سيكون أي طفل يظل على قيد الحياة مقبولاً.
وهي تحمل طفلتها السليمة، تمتمتْ بياتريكس صلاةً بلغتها الهولندية الأصلية. صلّتْ طالبة أن تكبر ابنتها وتتمتّع بالصحة والعقل والذكاء، وألا تجمعها صلات أبداً بفتيات يُفْرطن في وضع البودرة، أو تُضْحكهنَّ القصص السوقية، أو يَجْلسن إلى طاولات القمار مع رجال مُهْملين، أو يقرأْنَ روايات فرنسية، أو يتصرّفْنَ بطريقة لا تلائم إلا هندياً أحمر متوحشاً، وأن لا تصبح بأية طريقة من أي نوع المصدر الأسوأ لتشويه عائلة جيدة؛ أي ألا تصبح حمقاء. هكذا أتمت دعاءها ومباركتها، أو ما يشكّل دعاء ومباركة من امرأة متزمتة مثل بياتريكس ويتاكر.
كان رأي القابلة القانونية، وهي امرأة محلية وُلدتْ في ألمانيا، أن هذه ولادة لائقة في منزل لائق، وبالتالي إن ألما ويتاكر فتاة لائقة. كانت غرفة النوم دافئة، والحساء والبيرة يُقدَّمان مجاناً، والأم راسخة الإيمان، كما سيتوقع المرء من الهولنديين. فضلاً عن ذلك، كانت القابلة تعرف أنه سيُدفع لها بسخاء. فالطفل الذي يتسبّب بمجيء النقود طفل مقبول. بالتالي، قدمت القابلة الدعاء والمباركة لألما أيضاً، ولو دون عاطفة مفرطة.
كانت هانيكي دي غروت، رئيسة الخدم في المنزل، أقل تأثراً. فالطفل لم يكن ذكراً ولم يكن جميلاً. وجهه كإناء من الثريد، وشاحب كأرضية مدهونة. وكمثل جميع الأطفال سيتسبب بالعمل. وكمثل جميع الأعمال، سيقع العمل على عاتقها. لكنها باركت الطفلة بأية حال، لأن مباركة طفل جديد مسؤولية، وكانت هانيكي دي غروت تتولى مسؤولياتها. دفعت هانيكي للقابلة وغيرت أغطية السرير. وساعدتْها في جهودها خادمة شابة مهملة، وهي فتاة ريفية ثرثارة عُيِّنَتْ حديثاً في المنزل، كانت أكثر اهتماماً بالنظر إلى الطفلة من ترتيب غرفة النوم. لا يستحق اسم الخادمة الذّكر هنا، لأن هانيكي دي غروت طردت الفتاة في اليوم التالي على أساس أنها بلا فائدة، وصرفتها دون أية رسائل توصية. مع ذلك، في تلك الليلة، ركزت الخادمة التي بلا فائدة والمحكوم عليها بسوء الحظ انتباهها على الطفلة الجديدة، وتاقت هي نفسها إلى طفل، ومنحت مباركة عذبة وصادقة للصغيرة ألما.
كان هناك ديك يانسي، وهو رجل طويل ومخيف من يوركشير، يعمل لدى سيد المنزل ويتولى بقبضة حديدية جميع أعماله التجارية الدولية (وصادف أنه كان يمكث في العزبة في كانون الثاني\\يناير ذاك، منتظراً ذوبان الجليد في مرافئ فيلادلفيا كي يستطيع الإبحار إلى جزائر الهند الغربية الهولندية). لم يمتلك يانسي سوى كلمات قليلة كي يقولها عن الرضيعة الجديدة. وللإنصاف، لم يكن ميالاً كثيراً إلى المحادثة المفرطة في أية ظروف. فحين أخبروه أن السيدة ويتاكر أنجبت طفلة صحيحة الجسم، قطّب السيد يانسي فقط وقال باقتصاد مميّز في الكلام:”إن الحياة تجارة صعبة”. هل كانت تلك مباركة؟ من الصعب التأكد. لنتجنّب فائدة الشك ونعدّها واحدة. أكيد أنه لم يقصدها كلعنة.
أما والد ألما ـ هنري ويتاكر، سيد العزبة ـ فقد أفرحته ولادة الطفلة. كان الأكثر سروراً. ولم يهمه أن الوليد ليس ذكراً، أو أنه ليس جميلاً. لم يقدم المباركة لألما، ولكن السبب هو أنه ليس من النمط الذي يقدم الدعاء والمباركة. (“إن عمل الله ليس شغلي”، كان يقول في غالب الأحيان). وقد أُعجب هنري بطفلته دون أي تحفّظ. ذلك أنه هو من صنع طفلته، وكان هنري ويتاكر ميّالاً في الحياة إلى الإعجاب دون تحفظ بكل ما صنعه.
احتفالاً بهذه المناسبة، قطف هنري ثمرة أناناس من بيته البلاستيكي الأكبر وقَسَمها في حصص متساوية بين كل من في المنزل. كان الثلج يتساقط في الخارج، وكان شتاء بنسلفانيّاً قاسياً كالعادة، لكن الرجل يملك عدة بيوت بلاستيكية مدفأة بالفحم من تصميمه، وهي بيوت لم تجعل جميع خبراء وعلماء النبات في الأميركيتين يحسدونه فقط، بل جعلته غنياً بشكل فاحش أيضاً، وإذا أراد ثمرة أناناس في كانون الثاني\\يناير، فإنه قسماً بالله يستطيع الحصول عليها في كانون الثاني. ويستطيع الحصول على الكرز في آذار\\مارس أيضاً.
ثم ذهب إلى مكتبه وفتح دفتر حساباته، حيث سجل، كما يفعل كل ليلة، جميع أنواع صفقات العزبة، الرسمية والشخصية. بدأ: “انضم إلينا مسافر نبيل جديد وممتع”، وواصل كتابة التفاصيل، والتوقيت، ومصاريف ولادة ألما ويتاكر. كان خطه رديئاً وصعب القراءة بشكل مخجل. وكانت كل جملة قرية مزدحمة من الأحرف الكبيرة والأحرف الصغيرة، التي تعيش إلى جانب بعضها في بؤس شديد، وتزحف فوق بعضها كما لو أنها تحاول الهرب من الصفحة. كانت تهجيته تتجاوز الاعتباطية بعدة درجات، وعلامات ترقيمه تجعل العقل يزفر من التعاسة.
لكن هنري دوّن حساباته، رغم ذلك. كان من المهم بالنسبة إليه الحفاظ على مسار الأمور. وبينما كان يعرف أن هذه الصفحات ستبدو مرعبة لأي شخص متعلم، كان يعرف أيضاً أنه لا أحد سيرى كتابته إلا زوجته. فحين تستعيد بياتريكس عافيتها ستنسخ ملاحظاته في دفتر حساباتها، كما تفعل دوماً، وستصبح ترجمتها لخربشات هنري المكتوبة وتدوينها بخط جميل، السجل الرسمي للمنزل. كانت بياتريكس شريكة أيامه وقيمتها كبيرة في ذلك. وستنجز له هذه المهمة، بالإضافة إلى مائة مهمة أخرى.
إن شاء الله، ستعود إليها بعد وقت قصير.
كانت الأعمال الورقية قد بدأت بالتراكم.
[اعداد: تدوين]